المعارضة والخطاب الراديكالي في الدولة الحديثة...بقلم الشاعر أحمد طناش شطناوي

مشاركة

مؤاب - بقلم الشاعر أحمد طناش شطناوي 

رئيس فرع رابطة الكتاب الاردنيين / إربد

في عالم تتسارع فيه التحولات وتتصاعد فيه التحديات، تبرز المعارضة السياسية كضرورة لا غنى عنها في النظام الديمقراطي الحديث؛ فالمعارضة ليست بالضرورة قوة مضادة للسلطة، بل هي ضرورة وجودية لضمان توازن النظام واستمرار تجدد شرعيته؛ وهي التعبير المؤسساتي عن التعدد، وصوت النقد الذي يحفظ للدولة عافيتها ويمنعها من الانغلاق داخل ذاتها؛ غير أن هذا الدور النبيل سرعان ما يُصاب بالتحوّل، حينما تنزلق المعارضة من مربع "الديالكتيك" إلى منزلق "السفسطة"، ويتحوّل خطابها من الإصلاح إلى التجييش، ومن البناء إلى التشويه.

فحين تفقد المعارضة جذورها الفكرية والأخلاقية، ويُستبدل الجدل العقلاني بالخطاب الراديكالي، يصبح النقد سلاحًا بلا هدف، ويتحول من فعل تصحيحي إلى وسيلة للهدم الشامل؛ وهنا يُولد خطاب جديد، لا يُقارع الحُجّة بالحُجّة، بل يُقارع الدولة كلها بالشبهة، ويغدو كل ما يصدر عن النظام السياسي ملوثًا سلفًا، وكأن الدولة ذاتها قد أصبحت جرمًا وجوديًا يجب محاكمته لا إصلاحه.

إن هذا التحوّل من خطاب الإصلاح إلى الخطاب الراديكالي لا يحدث دفعة واحدة، بل هو نتيجة تراكمات من الإخفاق والإحباط والشعور بالتهميش، لكن ما يميّزه أنه لا يُنتج رؤية، بل يكتفي بإنتاج الضدّ؛ ولا يسعى لاقتراح البديل، بل لا يرى في الدولة إلا جدارًا يجب أن يُهدَم، وفي النظام إلا طغيانًا يجب إسقاطه، دون أن يتساءل عمّا بعد السقوط، ودون أن يُدرك أن الهدم بلا مشروع ليس حرية، بل عبث.

وحين يستحكم هذا الخطاب، تُختزل السياسة في ثنائية مُضلّلة: نحن أو هم، الشرعية أو الخيانة، الدولة أو الثورة؛ ويتحول المجال العام إلى ساحة لتبادل الاتهامات، لا لتبادل الأفكار؛ أما الوطنية، فتُحوّل إلى ورقة ضغط تُوظف وفق المصلحة لا وفق المبدأ، وأما الهوية الجامعة، فتصبح مسرحًا للاشتباك لا للانتماء.

إن هذا الخطاب، حين يُشيطن الدولة ويُفرغها من معناها الرمزي والمؤسساتي، يُعيد تشكيل الوعي الجمعي على قاعدة الغضب لا على قاعدة الفهم، ويحوّل أدوات المعارضة من كونها أدوات تصحيح إلى أدوات إرباك وتشويه؛ وبذلك يُقصي الخطاب الراديكالي نفسه من الحقل السياسي، ليغدو أقرب إلى فعل احتجاجي دائم بلا أفق، أو صراخ دائم بلا لغة.

وحينها، لا تكون المعارضة طرفًا داخل الدولة، بل خارجها؛ ولا تكون فاعلاً سياسيًا، بل عبئًا رمزيًا، يُضعف تماسك النظام لا لأنه يُعارضه، بل لأنه يُمعن في تفكيكه دون أن يملك تصوّرًا لتركيبه من جديد؛ فتُصبح المعارضة نفسها جزءًا من الأزمة البنيوية، لا أداة في حلها.

ولعل أخطر ما في الخطاب الراديكالي أنه يُصوّر الدولة وكأنها نقيض للمجتمع، وكأن المواطن لا ينتمي إلا بشرط معارضته، فيتم تمزيق العلاقة العضوية بين الفرد والدولة، وتفريغ فكرة العقد الاجتماعي من معناها؛ ويصبح الانتماء السياسي فعلاً متشنجًا لا فعلاً واعيًا، ويُعاد تشكيل الانقسام لا وفق السياسات، بل وفق الهويات المتنافرة.

إن هذا الانزلاق من الديالكتيك إلى السفسطة لا يُضعف المعارضة فحسب، بل يُقوّض الدولة ذاتها؛ ففي ظل هذا الخطاب، تتآكل فكرة الوطن بوصفه فضاءً مشتركًا، وتتشظى الهوية الوطنية إلى ولاءات آنية، ويُستبدل الإصلاح بالتخوين، والنقد بالتحريض، والتعددية بالفوضى.

وهنا، تبرز الحاجة مجددًا إلى "عقل الدولة" ذلك الكيان الفلسفي غير المنظور الذي لا يكتفي بإدارة المؤسسات، بل يُعيد ضبط العلاقة بين السلطة والمعارضة، وبين الدولة والمجتمع، وبين الهوية والاختلاف؛ فعقل الدولة هو القادر على احتواء المعارضة لا إقصائها، وعلى إدماج النقد في بنية النظام دون أن يتحول إلى هدم.

إن معارضة بلا مشروع كدولة بلا بوصلة، وكلاهما في النهاية، يُسقط الآخر أو يسقط معه؛ فلا إصلاح بلا معارضة عاقلة، ولا معارضة تُثمر بلا وعي وطني جامع؛ وبالتالي فإن التوازن الديالكتيكي، لا الانفعال السفسطائي، هو ما يصنع حياة سياسية راشدة، تُبقي الدولة حيّة، والمعارضة واعية، والمواطن شريكًا لا تابعًا.

الكلمات المفتاحية