السردية الوطنية: بين الانهيار وإعادة التكوين..الشاعر أحمد طناش شطناوي (رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين / إربد)

مشاركة

مؤاب - منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة، كانت الهوية الوطنية مشروعًا جمعيًا تُشكّله مؤسسات الدولة، المتمثلة في التعليم والإعلام الرسمي والمتحف والاحتفالات الوطنية والخطاب السياسي؛ حيث كانت الهوية تقوم على سردية موحّدة، "شعبٌ واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد وأعداء مشتركون ورموز جامعة".

لكن دخولنا إلى العصر الرقمي نسف هذا النموذج القائم على المركزية والتوحيد، فقد صار المواطن اليوم يتلقى معلوماته من مصادر غير رسمية، ويقرأ تاريخ وطنه عبر صفحات "ويكيبيديا"، ويتابع نقاشات الهوية عبر "تويتر"، ويرى نفسه كفرد في "الترند العالمي"، لا كعضو في سردية وطنية ضيقة.

وفي هذا المشهد، تفقد السردية الوطنية سلطتها الرمزية، إذ يتم تفكيك التاريخ الرسمي، ونقد رموز الدولة، ومقارنة الهوية المحلية بهويات بديلة أكثر "جاذبية" أو "حداثة"؛ ويحدث ذلك عبر أدوات رقمية تتجاوز رقابة الدولة وتفتح المجال أمام روايات متعددة، ما يؤدي إلى نهاية المركز الواحد للرواية وبداية التعدد السردي.

وما نشاهده مؤخرًا في الفضاء الرقمي لا يتجاوز كونه تكاثر للجماعات وتشظٍ للهويات، فالمواطن الواحد يمكن أن ينتمي في الوقت نفسه إلى مجتمع رقمي فني، وآخر ديني، وثالث سياسي عالمي، ورابع محلي؛ وهذه الانتماءات الموازية تُنافس الانتماء الوطني، وتعيد تشكيل الإحساس بالهوية، ومن هنا نستطيع القول أننا غارقون فعلا في فخ الهويات الموازية.

فلم يعد الوطن في الفضاء الرقمي هو الوحدة المرجعية الوحيدة، بل أصبح واحدًا من عدة "عوالم محتملة" يعيشها الفرد يوميًا، فتخيّل شابًا أردنيًا يقضي معظم وقته في منصات الألعاب الإلكترونية، أو في مجتمعات نقاش على منصات التواصل الاجتماعي، أو في تفاعل مستمر مع مؤثرين أجانب؛ إن هذه الانتماءات قد تعزز لديه إحساسًا بالانتماء لمجتمع رقمي عالمي يفوق في حيويته وأثره أي تجربة وطنية تقليدية.

والأخطر أن هذه الجماعات غالبًا ما تمتلك آليات خاصة للمعنى والتأثير والولاء، ما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ"هويات فقاعة"، فقد تبدو متماسكة في داخلها، لكنها مفصولة عن المحيط الوطني.

وهنا تظهر الهشاشة السيبرانية للهوية الوطنية، حيث يصبح الولاء مرهونًا بالتفاعل الرقمي، لا بالانتماء التاريخي أو الجغرافي.

ورغم هذا التفكك، لا يمكن التسليم بأن الهوية الوطنية إلى زوال؛ بل إن الفضاء الرقمي ذاته رغم فوضاه يحتوي على إمكانات هائلة لإعادة بناء الهوية الوطنية، ولكن بشرط الوعي والابتكار.

فالدولة التي تفهم لغة الرقمنة، وتُعيد إنتاج سرديتها الوطنية بوسائل رقمية جذابة، قادرة على استعادة المواطن الرقمي من فضاءات التشظي، إذ يمكنها بناء منصات وطنية تفاعلية تُتيح للمواطن أن يسهم في كتابة تاريخه، وسرد قصصه، والمشاركة في بلورة الرموز والمعاني الوطنية.

ويمكن عبر الإعلام الرقمي، والواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي، إنتاج سرديات وطنية حداثية تعترف بالتعدد، وتعيد بناء الهوية كماضٍ مُقدس ومستقبل مشترك في نفس الوقت.

كما أن الهويات الوطنية المستقبلية لن تكون مغلقة أو تقليدية، بل ستكون شبكية ومرنة ومتقاطعة مع انتماءات كونية، لكنها تستند إلى وعي بالخصوصية وإدراك للرمز وشعور بالمصير المشترك.

إذًا، ما نحتاجه ليس هوية وطنية منغلقة تُقاوم الرقمنة، بل هوية رقمية ذات جوهر وطني، قادرة على التنقل بين العوالم دون أن تفقد جذورها.

ومن غير المستغرب أن مستقبل الهوية الوطنية في ظل الفضاء الرقمي سيطرح سؤالاً وجوديًا هامًا: 

هل يمكن للدولة أن تظل وطنًا في زمن صارت فيه المنصات حدودًا، والتفاعلات هويات، والخوارزميات أدوات تشكيل الوعي؟

إن الجواب ليس سهلاً، لكنه ليس سوداويًا أيضًا.

فالفضاء الرقمي، بما يحمله من خطر التشظي والانفصال، يحمل في طياته بذورًا جديدة لإعادة تشكيل الانتماء، وبناء هوية وطنية حداثية لا تقاوم التغيير بل تعيد تشكيله على صورتها.

فالمشروع الوطني القادم لن يكون مجرد مشروع سياسي أو اقتصادي، بل سيكون بالأساس مشروعًا ثقافيًا رقميًا، يستثمر في إعادة تخييل الوطن، وإعادة إنتاج رموزه، وتحويل الهوية الوطنية من ماضٍ يُستعاد إلى أفق يُبنى.

الكلمات المفتاحية