مؤاب - منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع العام 1840، بدأت ملامح المشروع الصهيوني تتكوّن بوضوح في سياق عالمي كان يشهد تحولات كبرى: انحسار سلطة الكنيسة البابوية الكاثوليكية، صعود البروتستانتية في أوروبا بقيادة مارتن لوثر، وتبلور الفكر القومي والعلماني في ظلّ عصر التنوير والثورة الصناعية.
في هذا السياق، نشأت الحركة الصهيونية الحديثة كحركة قومية علمانية سعت إلى إعادة تعريف هوية يهود أوروبا وتحريرهم من العزلة الدينية والاجتماعية، عبر دمجهم في المجتمعات الأوروبية، مع المحافظة على هدف استراتيجي بعيد: إقامة وطن قومي لليهود.
ما ميّز الصهيونية في مراحلها الأولى لم يكن فقط تبنّيها للعلمانية، بل قدرتها على بناء تحالف أيديولوجي مع التيارات البروتستانتية، لا سيما الإنجيلية منها. فقد سعت التيارات البروتستانتية إلى إعادة قراءة العهد القديم باعتباره مرجعًا دينيًا وتاريخيًا، يتضمّن وعدًا إلهيًا بعودة اليهود إلى "أرض الميعاد".
ومن هنا، نشأت ما تُعرف بـ"الصهيونية المسيحية"، وهي حركة دينية تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل هو مقدمة ضرورية لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وعلى رأسها عودة المسيح المخلّص. وقد وجدت هذه الحركة رواجًا واسعًا بين أتباع الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة وأوروبا، وأثّرت لاحقًا في السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط، خاصة في ظلّ اختراق هذه الحركة لمراكز القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي في الغرب.
بعد عقود من الحشد الأيديولوجي، جاءت الاتفاقات السياسية الكبرى لتمنح هذا المشروع أدوات التنفيذ. فـ"سايكس بيكو" أعادت تشكيل الشرق الأوسط وفق معايير استعمارية، فيما جاء "وعد بلفور" عام 1917 ليمنح الغطاء السياسي البريطاني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما مثّل لحظة مفصلية في الانتقال من الحلم إلى التخطيط العملي.
وهكذا، بدأت الحركة الصهيونية تتحول تدريجيًا من مشروع فكري إلى كيان جيوسياسي، بمباركة قوى عظمى وبدعم مسيحي صهيوني واسع. وترافق ذلك مع انعقاد المؤتمرات الصهيونية المتتالية، التي رسمت الخطط وأطلقت الهجرات المنظمة والاستيطان الممنهج، بما يرسّخ الوجود اليهودي في فلسطين تمهيدًا لإعلان الدولة العبرية.
بعد إقامة دولة إسرائيل عام 1948، بدأت ملامح تحول جذري في داخل الحركة الصهيونية نفسها. فمع تصاعد نفوذ التيار الديني المتشدد داخل الدولة العبرية، بدأت الصهيونية العلمانية تفقد موقعها لصالح ما يُعرف اليوم بـ"الصهيونية الدينية القومية".
هذا التيار لم يعد يكتفي بحدود فلسطين التاريخية، بل استند إلى قراءات تلمودية ترى أن "أرض إسرائيل الكبرى" تمتد من النيل إلى الفرات. وبناء على هذه العقيدة، لم تعد أي صيغة لتسوية الصراع، بما في ذلك سيناريو "الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية"، سوى محطات تكتيكية نحو الهدف الأوسع: إقامة إسرائيل الكبرى وتهيئة الظروف لإعادة بناء الهيكل الثالث، بما يتماشى مع النبوءة الإنجيلية ويُرضي جمهور المسيحيين الصهاينة.
جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023، بهجوم حماس غير المسبوق، لتشكل نقطة تحول دراماتيكية في مسيرة المشروع الصهيوني. فللمرة الأولى منذ عقود، بدت الدولة العبرية مكشوفة وضعيفة أمام خصم غير تقليدي، ما هزّ ثقة مؤيديها في الداخل والخارج، لا سيما ضمن صفوف المسيحية الصهيونية، التي رأت في هذا الهجوم تهديدًا لنبوءة عمرها قرابة 185 عامًا.
لم يكن القلق مرتبطًا بالخسائر البشرية أو العسكرية فحسب، بل بالخوف من انهيار السردية التي بُنيت عليها شرعية الكيان الصهيوني، واهتزاز صورة "الدولة المقدّسة" التي تمثل الركن الأيديولوجي للتحالف بين الإنجيليين المتنفذين والصهاينة السياسيين.
في قلب الرؤية الدينية للصهيونية المتطرفة، وتحديدًا تلك التي تتبنى تفسيرات تلمودية حرفية، يبرز طموح يتجاوز فكرة الوطن القومي في فلسطين، ليصل إلى إقامة "الدولة العالمية" التي يُهيمن عليها "أحفاد داوود"، كامتداد للملكوت الإلهي على الأرض. فبحسب هذه الرؤية، لا تكون دولة إسرائيل مجرّد كيان قومي لليهود، بل النواة الأولى لحكم إلهي يفرض سيادته على العالم بأسره.
هذه الفكرة تجد جذورها في نصوص توراتية وتلمودية تنظر إلى اليهود على أنهم "شعب مختار"، ليس فقط لاحتلال أرض الميعاد، بل لقيادة البشرية جمعاء نحو "الخلاص"، ضمن نظام هرمي تكون فيه السيادة لليهود، فيما يُقسم غير اليهود (الـ"جوييم") إلى مراتب دنيا تُعرف في الفكر التلمودي بـ"الأغيار" أو "الأغرار" – وهم الشعوب التي يُفترض بها أن تخضع لسلطة إسرائيل الروحية والسياسية.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى أتباع الديانات الأخرى – خاصة المسيحية الصهيونية – كحلفاء بالمعنى التقليدي، بل كأدوات مرحلية لتنفيذ مشيئة إلهية أوسع. وهكذا، يصبح دعم هؤلاء لإسرائيل جزءًا من مسار نبوئي يُمهّد لعودة "المسيا المنتظر"، الذي سيُعيد بناء الهيكل الثالث، ويحكم الأرض من أورشليم كعاصمة للعالم الجديد.
هذا التصور العقائدي ليس مجرّد ترف فكري، بل يُترجم على أرض الواقع عبر خطاب سياسي وديني يؤسس لشرعية توسعية تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية. لذلك، فإن مفاهيم مثل "من النيل إلى الفرات" أو "أورشليم العالمية" لا تنبع فقط من أطماع استعمارية، بل من سرديات ميتافيزيقية توظف الدين لخدمة مشروع هيمنة شاملة.
يتجاوز المشروع الصهيوني في طبيعته حدود فلسطين أو الشرق الأوسط. فهو مشروع ذو أبعاد كونية، يستند إلى تحالف بين مكونات دينية (المسيحية الصهيونية واليهودية التلمودية)، وأدوات سياسية واقتصادية وإعلامية تنتشر عبر أكثر من 600 مليون إنجيلي مؤمن بالنبوءة، معظمهم في العالم الغربي.
وقد ساهم هذا النفوذ في صناعة قرارات دولية كبرى، وضمان استمرار الدعم لإسرائيل رغم تجاوزاتها، بل وتحويلها إلى قضية مقدسة في الوعي الجمعي الغربي، بما يشبه الحصانة العقائدية.
إن فهم المشروع الصهيوني لا يمكن أن ينفصل عن السياق التاريخي والأيديولوجي الذي نشأ فيه. فهو ليس مجرد مشروع استعمار تقليدي، بل هو دمج معقد بين عقيدة دينية، ومشروع سياسي عالمي، ورؤية نبوئية تتجاوز حدود الجغرافيا.
اليوم، ومع تحديات داخلية وخارجية متفاقمة تواجه إسرائيل، فإن السردية الصهيونية تقف أمام اختبار مصيري: إما أن تعيد قراءة الواقع بتواضع سياسي يعترف بالآخر، أو أن تُصر على استكمال النبوءة بمعزل عن الواقع، وهو ما قد يجعل النهاية مختلفة تمامًا عما خُطط له قبل 185 عامًا