مؤاب - في عالم يتبدل فيه معنى التحالفات كل يوم، ويغدو فيه العدو شريكا محتملا، ويخسر الحليف امتيازاته عند أول لحظة اختلاف، تبرز فلسفة دونالد ترامب السياسية التي لا تعترف بالثوابت، فالرجل يكره الحروب الطويلة، ويعشق الصفقات السريعة، حتى لو كانت مع خصوم الأمس، فمن غزة إلى صنعاء ومن طهران إلى موسكو ومن تل أبيب إلى كييف، قرر ترامب أن لا شيء يدوم سوى المصالح، وأن الشرق الأوسط بات ساحة تصلح أكثر لعقد الصفقات من شن الحروب.
وإذا ما دخلنا الى فكر الرجل سنجده ليس مهتما بمفاهيم الحرب العادلة، أو الدفاع عن حليف بعيد، ولا يرهقه إرث دبلوماسي ثقيل، ففكرته تتمحور ببساطة من يدفع أكثر، ومن يمنح أميركا صفقة أفضل.
لذلك لم يتردد أن يرسل مبعوثيه ليطرقوا أبواب خصوم واشنطن التاريخيين، من حماس إلى الحوثيين، ومن ملالي طهران إلى جنرالات موسكو.
ومن غزة، كان العنوان “هدنة مقابل الرهائن”، وفي اليمن صفقة تحت الطاولة مع الحوثيين رغم التصنيف الأميركي لهم كجماعة إرهابية حتى عيدان ألكساندر، المواطن الأميركي المحتجز لدى المقاومة حماس، وكان ورقة في صفقة معقدة، رفض نتنياهو حينها التوقيع عليها خشية إلزام تل أبيب بتنازلات مستقبلية.
وحده ترامب آمن أن كل طرف في الشرق الأوسط لديه ثمن، وكل أزمة يمكن أن تعلق على مشجب مؤقت حتى إشعار آخر، وهو يدرك أن الحروب في تلك المنطقة لا تحسم، وأن النهايات الحاسمة مجرد وهم، لذلك عوض منطق “النصر الكامل” بمنطق “الصفقة المؤقتة”، فهذه الاستراتيجية تحولت إلى سياسة أميركية صريحة مع تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أدركت واشنطن أنها لا تستطيع إدارة حرب في شرق أوروبا، وترك الشرق الأوسط مشتعلا.
هذه السياسة الصفقاتية، التي يراها خصوم ترامب تهورا وتفريطا، يصفها أنصاره بالواقعية ما بعد الهيمنة، وهنا يمكننا القول انه لا مكان للعقائد الأيديولوجية الصلبة، ولا قيمة لحرب لا يمكن إنهاؤها، فصفقات ترامب في الشرق الأوسط ليست مجرد تسويات، بل إعادة صياغة لشبكة النفوذ الأميركية، بمنطق “الترويض لا التدمير”، فخصم الأمس يجلس إلى الطاولة، والحليف القديم يتلقى التحذير، بينما تتحكم واشنطن بإدارة مسرح أزماتها وفق توقيت مصالحها.
ولكن ما يثير الجدل أن هذه السياسة، رغم كل الانتقادات، قد تكون الأكثر انسجاما مع الواقع الإقليمي المتغير، فربما دول الخليج تتقارب مع إيران رغم تنافسها، وتركيا تعقد تحالفات متحركة، والكيان الصهيوني يخوض معارك مؤقتة دون أهداف استراتيجية حاسمة، فسورية ما تزال ساحة مفتوحة، ووسط هذا التعقيد، كان من الذكاء، أن تلعب واشنطن لعبة “التسكين لا التصعيد”، مع احتفاظها بخيوط اللعبة.
أما فيما يخص حرب أوكرانيا، أصبح هذا النهج ضرورة، فحرب أوكرانيا لم تعطل فقط حسابات واشنطن في أوروبا، بل أعادت ترتيب الأولويات، والتحالفات باتت أكثر تكلفة والعداوات أقل قيمة، لهذا فمن الأفضل أن تتفاوض مع خصم يمكن أن يقدم تنازلا، على أن تستنزف مواردك في حرب لا نهاية لها.
وهنا أقول ان صفقات ترامب، سواء في غزة، أو صنعاء، أو في ملفات الرهائن، لم تكن استسلاما بقدر ما كانت تفويضا مؤقتا ويوفر جبهة باردة حين تحتاج أميركا أن تركز على حربها الأهم.
بالمحصلة، قد لا تعجب هذه السياسات المؤسسات التقليدية في واشنطن، ولا ترضي الحلفاء المعتادين على امتيازات بلا شروط، لكنها قد تمثل الوصفة الأنسب لعصر ما بعد القطبية الأحادية، فالشرق الأوسط الجديد ليس مكانًا لحروب شاملة، بل ميدان صفقات مؤقتة، يمنح فيها الخصم فرصة مشروطة، ويتلقى الحليف تحذيرا وتربح فيه أميركا لحظات استقرار حين تحتاجها، هذه سياسية ترامب.