مؤاب - بين أمل التغيير وواقع المعاناة، تكثر قصص أبناء جنوب الأردن وهم يصارعون الهموم الاقتصادية في قرى نائية تختفي ملامح المدينة فيها تحت سطوة الجبال والصحراء. يعيش " ابن الجنوب" ذو الـ35 ربيعاً حاملاً بين جوانحه أملًا بتغيير يلامس حياة أهله، رغم صعوبة الظروف، يتمسك بفكرة أن " الغد أفضل"، لكنه محاصرٌ بتحديات يومية من بطالة وغلاء معيشة وتراجع الخدمات الأساسية. قصته ليست فردية، بل انعكاس لواقع آلاف الأردنيين في محافظات الجنوب، حيث تتسع الفجوة التنموية بين العاصمة والأطراف عامًا بعد عام.
الواقع مرير والمعاناة يومية ولا تقتصر معاناة ابن الجنوب على شح الموارد وقسوة الطبيعة ، بل تمتد إلى أزمة بطالة مزمنة تلتهم كل الاحلام . يقول ابن الجنوب شاكيا وبعد الشكوى لغير الله مذلة " أعمل منذ عشر سنوات في الزراعة، لكن دخل الأسرة لم يعد يكفي لشراء الأدوية ". ابنه البكر، الحاصل على الشهادة الجامعية منذ عامين، ما زال عاطلًا عن العمل رغم تسجيله في العديد من برامج التوظيف الحكومية. " الوظائف الوحيدة المتاحة هي في عمان أو العقبة، ولكن كيف أتحمل إيجار سكن هناك؟ " يتساءل بمرارة وبخيبة امل .
ليست البطالة هي التحدي الوحيد لابن الجنوب ؛ فغلاء الوقود وارتفاع اسعار المواد الغذائية وغلاء كل اساسيات المعيشة يضاعف الأعباء. تقول أم عطا: "كل اشي ارتفع سعره ، بس معاش الزوج ثابت ". في القرى المجاورة، تزداد القصص تشابهًا: عيادات صحية تفتقر إلى أطباء بشكل دائم ، مدارس جدرانها متصدعة بلا تدفئة في الشتاء القارص، وشباب يهجرون القرية إلى المدينة أو الخارج. وفقًا لدائرة الإحصاءات العامة، تبلغ نسبة البطالة في محافظات الجنوب 23%، مقارنة بـ18 % على مستوى المملكة. وتُظهر البيانات أن 60% من العاطلين هم من الشباب تحت سن 30 عامًا، ما يدفع العديدين إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية بحثًا عن فرص عمل، مما يفقد المنطقة كفاءاتها الشابة ويعمق التهميش.
اقتصاد مُنهك: بين شح المياه وارتفاع التكاليف ، فالزراعة، العماد التاريخي لاقتصاد الجنوب، تواجه انهيارًا متسارعًا بسبب شح المياه وارتفاع كلفة المدخلات. في هذه الظروف اضطر ابن الجنوب لبيع جزء من أرضه التي ورثها عن اجداده لسداد الديون، بينما يحاول إنقاذ ما تبقى باستخدام قرضٍ صغير لشراء بعض المعدات الزراعية البسيطة لكنه يخشى ألا تكفي هذه الخطوة لمواجهة الجفاف المتكرر.
الوجه الآخر لمعاناة ابن الجنوب هي الهجرة التي لم تعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورةً قاسية للكثيرين ، هروبٌ من واقعٍ بلا فرص. " الجنوب جميل، لكنه بلا فرص"، يقول شابٌ هاجر إلى العاصمة، هذه الهجرة لا تُفقد المنطقة شبابها فحسب، بل تُضعف أي فرصة لإحياء اقتصاد محلي متعثر.
بذور أملٍ هشة ومشاريع تراوح بين الوعد والتطبيق وما يزال ابن الجنوب يؤمن بالتغيير رغم الصعوبات، يتمسك ببصيص أمل في مشاريع تنموية تلوح في الأفق ، يتابع أخبار مشروع الطاقة الشمسية في معان واستثمارات السياحة بوادي رم، التي قد توفر فرص عمل لأبنائه. الحكومة تروج لمبادرات مثل " الأردن 2025 " وبرنامج " فرصة " لدعم المشاريع الصغيرة، لكن تأثيرها بطيء بسبب البيروقراطية وضعف المشاركة المجتمعية.
التعليم يبقى منفذًا للضوء. ابنته روان، أول خريجة جامعية في العائلة، تدرس الهندسة في جامعة الحسين بن طلال. " أريدها أن تبني مستقبلًا مختلفًا "، يقول ابن الجنوب بفخر، لكن روان تخشى أن تلحق بشقيقها في رحلة البحث عن وظيفة خارج الجنوب.
قد يكون الجنوب في قلب السياسات الحكومية الحبلى بالوعود ، ومازال ابن الجنوب يصرخ ، متى تتحول الكلمات إلى أفعال؟
الجنوب يمتلك ثرواتٍ هائلةً من السياحة إلى الطاقة، لكن تنميتها تتطلب رؤيةً استراتيجيةً عاجلة. مشروع السكك الحديدية " الخط الأحمر" الذي يربط العقبة بعمان ما زال حبيس الأدراج منذ سنوات، رغم وعودٍ بإنعاش التجارة والنقل. وحتى المشاريع المنفذة، مثل " تطوير المحافظات" تواجه انتقادات بسبب تركيزها على البنية التحتية دون معالجة جذرية للبطالة أو الفقر.
" نصدق الوعود، لكننا نريد رؤية أثرها قبل فوات الأوان"، يتسائل ابن الجنوب هل تنجح الجهود في تحويل الأمل إلى واقع؟ أم سيظل الجنوب يسابق الزمن من أجل البقاء؟ الجواب يعتمد على سياساتٍ تضع الإنسان في القلب، وتُحوِّل الأحلام إلى مشاريع تُلمَس على الأرض.
خاتمة الكلام ، الصبر ينفد ، لكن الأمل باقٍ ، قصة ابن الجنوب ليست مجرد شكوى، بل نداء لإعادة الاعتبار للجنوب كشريك في التنمية. الأمل موجود، لكنه يحتاج إلى سياسات فعّالة تُترجم الكلمات إلى مشاريع ملموسة. فهل تستطيع الجهود الرسمية والأهلية تحويل الأمل إلى واقع ؟ الجواب يعتمد على ما إذا كانت التنمية ستصل إلى حيث تبدأ الحكايات وتنتهي الأحلام.
*امين عام المجلس الصحي العالي السابق