crossorigin="anonymous">

الجرائم الإلكترونية.. سلاح العصر الخفي من منظور قانوني واستراتيجي

مشاركة

مؤاب - بقلم : المحامي محمود محمد عبد الطراونة.

مع دخول العالم الرقمي كل جوانب حياتنا اليومية، لم تعد الجرائم مجرد أعمال تقليدية محدودة بزمن أو مكان، بل أصبحت ظاهرة عابرة للحدود تؤثر على الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء. الإنترنت لم يعد مجرد وسيلة للتواصل أو العمل، بل أصبح ساحة مفتوحة للجريمة، حيث يمكن لمجرم مجهول أن ينفذ عمليات ابتزاز أو احتيال أو اختراق خلال دقائق، مستخدمًا أدوات تقنية متقدمة مثل أجهزة الحاسوب، الهواتف الذكية، الشبكات الافتراضية، والذكاء الاصطناعي. هذه الطبيعة الرقمية للجريمة تجعل الملاحقة القانونية أكثر تعقيدًا، إذ تتطلب تعاونًا بين السلطات القضائية والأمنية على المستوى الوطني والدولي، إضافة إلى وجود أطر تشريعية متطورة تواكب سرعة تطور التكنولوجيا.

كما أن خطورة الجرائم الإلكترونية لا تقتصر على الجانب المالي أو الشخصي، بل تمتد لتشمل الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي والسياسي، إذ يمكن أن تُستغل لاختراق أنظمة حكومية، سرقة بيانات حساسة، أو نشر معلومات مضللة تؤثر في الرأي العام. وبهذا المعنى، يمكن وصف الجرائم الإلكترونية بأنها سلاح العصر الخفي، يجمع بين السرعة، القدرة على التسلل، والتأثير الواسع، مما يجعل الوقاية منها ومكافحتها قضية قانونية واستراتيجية متشابكة.

تتسم الجرائم الإلكترونية من منظور قانوني بأنها متنوعة ومعقدة، وتشمل التحايل الإلكتروني والاحتيال المالي عبر الشبكة، سرقة الحسابات البنكية، الابتزاز الإلكتروني، اختراق أنظمة المؤسسات والشركات الحيوية، ونشر المعلومات المضللة التي تهدد الأمن العام واستقرار المجتمعات. وقدّرت تقارير دولية الخسائر الناتجة عن هذه الجرائم بمليارات الدولارات سنويًا، ما يعكس حجم الخطر الاقتصادي والاجتماعي والقانوني الذي تفرضه هذه الظاهرة.

استجابة لهذا الواقع، شرعت العديد من الدول في تحديث تشريعاتها الوطنية لمكافحة الجرائم الإلكترونية. ففي الأردن، جاء قانون الجرائم الإلكترونية رقم 17 لسنة 2023 ليُعطي السلطات القضائية والأمنية صلاحيات واسعة للتحقيق، بما في ذلك الاطلاع على البيانات الرقمية، حجب المحتوى المخالف، ومصادرة الأجهزة الإلكترونية، مع فرض عقوبات تصل إلى السجن والغرامات المالية. وفي الإمارات، جاء المرسوم الاتحادي رقم 34 لسنة 2021 ليضع إطارًا متكاملاً لمكافحة الشائعات والتحايل الإلكتروني، محددًا الإجراءات القضائية اللازمة لملاحقة مرتكبي الجرائم الرقمية وضمان حماية المجتمع من الأضرار القانونية والاقتصادية.

ومن الناحية العملية، يُعد الوعي القانوني للمستخدمين محورًا أساسيًا في الوقاية من الجرائم الإلكترونية، ويشمل حماية البيانات الشخصية، استخدام كلمات مرور قوية، تفعيل المصادقة متعددة العوامل، والتحقق من مصداقية المواقع الإلكترونية قبل التعامل معها. كما يُنصح بالاحتفاظ بسجلات إلكترونية يمكن الاستناد إليها كأدلة قانونية أمام القضاء عند التعرض لجرائم رقمية.

وفي المجمل، تُعد الجرائم الإلكترونية اليوم سلاح العصر الخفي الذي يهدد الأمن المالي والاجتماعي والقانوني، لكنها في الوقت نفسه تمثل فرصة لإعادة صياغة التشريعات، تطوير أدوات الأمن الرقمي، وتعزيز الوعي القانوني والاستراتيجي، ليصبح الفضاء الرقمي بيئة أكثر أمانًا ومسؤولية في عصر تتسارع فيه الرقمنة يوماً بعد يوم.

الكلمات المفتاحية